قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي إرْنِستو راغاتْسُوني (Ernesto Ragazzoni (1870-1920
تقديم
كيفَ للشِّعْرِ أن يُراوغَ نصَّ ذاتِه؟ أو/ كيفَ للقصيدةِ أن تكون إحبالاً لذاتِها واستنفاداً لذاتِها في الوقتِ نفسِه؟
هنا، على حدِّ زعمنا، مكمنُ القوَّة في شِعرِ راغاتسوني: قوَّةٌ- وردةُ انفلاقٍ تتفتَّحُ وتُنذِرُ بتفتيحِ كلِّ ما يمسُّها؛ فبزرةُ الشِّعر التي تتقوَّى أصلاً بالمحلوم، لا تبلغُ الانفجارَ إلا عندَ انصهارِ الحلمِ بالواقع، أي عندما تصبح القصيدة نهجَ حياةٍ لا نَمِيّزُ عندَه الذَّاتَ الشِّعريَّة مِن طيفِها.
هكذا الحالُ، إذن، في نصِّ راغاتسوني: ثباتُ حياةٍ برمَّتها في الصَّهارةِ الشِّعريَّة؛ ولعلَّ هذا ما حدا ببعضِهم إلى القول بأنَّ شِعرَه يُقبَضُ عليه، غالباً، مِن خارجِ النَّص، أي مِن حياةِ الشَّاعرِ البرَّانيَّة؛ وفي رأينا، لا يخلو هذا الادِّعاء من انعدامِ بصيرةٍ نقديَّة: مِن جهةِ النَّظر إلى الأمرِ كتوالُجٍ، لا كَتذاوب.
* * *
(إنَّها روحُ الآلة، وقد اخترقتْ أعماقنا، إلى حدِّ أنَّنا وهي أصبحنا الشَّيءَ نفسَه؛ حتَّى أنَّ العادات والأعراف، وطرائق الحياة، وجميع الظَّواهر الاجتماعيَّة باتت تتشكَّلُ اليومَ وفقاً لقوانين الآلة، وعلى الصُّورةِ التي تريدها هي) – بهذه الكلمات النبويَّة يعلن الشَّاعرُ موقفه من هذا العصر المحكومِ بالآلة والمجلودِ بها، عصرٍ تقوم البضاعةُ فيه بدلَ اللغة، والتقنيَّةُ بدلَ الفكر، والمادِّيَّةُ بدلَ اللذَّة. على هذه الرُّؤيا تتأسَّس نزعتان متواشجتان في الخطاب الشِّعريِّ عندَ راغاتسوني: نزعةٌ تُيوصوفيَّة، ونزعةٌ تهكُّميَّة. الأولى بما هي إعلاءٌ للرُّوح وتطويبها ابنةً كونيَّة، والأخرى بما هي انشغالٌ بالأرضيِّ، بتثبيتِ الفرحِ الأرضيِّ، ضدَّ تفاهة الاتِّجاهات والقناعات الاجتماعيَّة. نحنُ، بالتَّالي، تلقاءَ شعريَّةٍ ثوريَّة، شعريَّةِ نقضٍ وتحويل، نقضٍ للقصيدة البلاطيَّة، وتحويلٍ للفكرِ والحياة. وإذا كان التَّهكُّم النِّيتشويُّ أشدَّ وضوحاً في قصائد راغاتسوني الأولى، إلا أنَّ قصائده المتأخِّرة، برغم اشتدادِ محلوميَّتها، لم تَعدَم نفَسَها التَّهكُّميَّ، بل إنَّها بلغتْ من الشَّراسة النَّقديَّة انتضاجاً لا لبسَ فيه، ونُقِّيَتْ في الوقتِ نفسِه من التَّنافر والخشونة، أو بتعبيرٍ آخر، اكتملتْ فيها فضَّةُ التَّذاوب بين داخلٍ وخارج.
هذا الخروجُ عن الامتثاليَّة، والانهمام بالتَّجاوز، كان ثمنهما، في طبيعةِ الحال، تهميشاً نقديّاً رفعَ الشَّاعرَ إلى مدرجِ الشُّعراء الملعونين.
* * *
هكذا، يقيمُ الشِّعرُ هيكلَ قداستهِ الخاصَّة،
وهكذا، تعلنُ القصيدةُ نفسَها إلاهةَ نفسِها، مألوهةً لها،
وتنتصبُ وحيدةً وحيدة، مثل طوطمٍ مطروقٍ بالشَّمس، ومُشكَّلٍ بالرِّيح.
شاربو النُّجوم
في الليالي الخاوية مِن قمر،
ليالي الصَّيف الرَّائقة
حين السَّماءُ تُضايقُ الأرضَ
ببروقِ نظراتٍ لا تُحصى،
- نظراتٍ مِن نجوم!- والأشياء
(التي تقصمُ ظهرَها
ملايين البآبئ الفضوليَّة)
تأرَقُ في بحرِ نومٍ مُضطرِب،
يخرجُ شاربو النُّجومِ خِفيةً،
ومُنتعلينَ خِفافاً ينزلون
صوبَ نهرٍ يعرفونه جيِّداً
لأجلِ أن يكرعوا النُّجوم
النُّجومَ المُتهايلةَ زخَّاتِ انعكاساتٍ
على المياه. ومُرتَمين على بطونِهم
فوقَ الضّفَّةِ الخشنة، يتذوَّقون
السَّماء البليلةَ على شِفاههم.
فيشربون، ويشربون، ويرونَ
كيفَ مِن سكينةِ النَّهرِ العميقة
تنبثقُ تلك الزُّهور الطَّافيات
مغتبطاتٍ بما يُمنحنَه مِن نورِ
أكوانٍ قصيَّة، والنُّغَبُ الفائقةُ
الشَّهيَّة تستنفدُها الشِّفاهُ
في الماء حيث يعومُ، ليلاً،
فُسفورُ وذهبُ الأفلاك العليَّة.
الزُّمرةُ المغبوطةُ أبداً هي زمرةُ
أولئك الذين يحيَون على الأحلام،
على الزُّرقة، على أراضٍ موعودة،
على غواميضَ نجميَّة، على قلاعٍ
تترجَّح معلَّقةً في الهواء،
قلاعٍ تستدعيها المورغانات1
كلَّ مرَّةٍ بغيمةٍ مختلفة،
وأميراتٍ بعيدات المنال.
لكنَّهم لا -كمثل ذؤاباتٍ أرجوانيَّة
لمذنَّباتٍ جسورةٍ ومخدَّشة-
يرتمون ليفتحوا ثُلماً في السَّماء
نحو سماواتٍ أخَرٍ مجهولة،
لا يفعلون، بل بأشرعةٍ مُرخاةٍ،
إذ ينقِّبون بعيداً عبرَ الأمواج
يرون كيف تطفرُ من جهةِ الليل
إلى الفجرِ غولكونداتٌ2 جديدة؛
أبداً لا يفعلون، بل بصولجانٍ مرفوعٍ،
(ملوكاً مجوسيِّينَ نسَّاجي طلاسمَ)،
يُطلِعون ورودَ حزيرانَ
من بطونِ شتاءاتٍ راجفة.
إن كانوا ينقِّبون فيما وراء الوجود،
فيما وراءَ الغاية عن غاياتٍ أخَر،
إن فقدوا أرواحهم اللطيفة وهم
يصطادون الغيوم، ظِماءً
إلى الزُّرقة، إلى أراضٍ موعودة،
إلى غواميضَ نجميَّة، إلى كلِّ
سرابٍ يُحبَكُ في الهواء
فذلك فقط لكي يضخِّموا الأحلام.
كذا هُمُ، أوديسِّيُّون خاملون، ملَّاحون
بُوصلاتهم مسدَّدةٌ دوماً نحو النُّزُل،
دونكيشوتيُّون فائقو التحرُّز
نعالُهم من خيوطِ الموسلين،
ينهضون متأخِّرين، رويداً رويداً،
واحداً واحداً، عن الوليمة،
يندفعون - على المراتب الملائمة-
ليشربوا بعض الخيالات.
ذلك الذي وسط ركام السُّحب يصعد
قمماً أخرى لم تُنتهَك لينالَ عالَمَه؛
لَكَم كان حريَّاً به أن يبحث عنه
في قلب اللُجَّة، وسط حشيش البحر؛
فأولئك - بقدرةِ نُغبةٍ واحدة-
ينالون من السُّكرِ ألف مليونِ عالَمٍ،
(كم نجمَ دِبرانٍ3 سيدوِّمُ السَّماء
في طريقهم، كم كوكبةَ جوزاء!)
يشربون، يشربون، لهم مكعَّباتُ
الثلجِ المغمورةُ أشباحُ كواكب،
بأنَّهم يرون الأنجم العظمى
أشدَّ فتنةً وسحراً من الأنجمِ الحيَّة.
الماء يُغمْغِم. على الحوافِّ
تتمطَّطُ الألسنُ اللفَّافةُ المتلوِّية،
واللَهَواتُ، محرَّرَةً من وُصْلاتِها،
تتراقصُ بسوائلِ الغبطة.
قرقراتٌ، بَقبقاتُ تنقيطٍ مبتهجة
في الأسفل (في مزاريبِ الكبد)،
نغماتٌ رقيقةٌ هنا وهناك - مِن تجاويف المِعَد-
لِحَبابٍ لطيفٍ غرائبيِّ الظُّهورات.
زَفَراتٌ كأنَّها تنفُّسُ قطعانٍ
محتشِدةٍ عندَ المشارب،
آهاتٌ، رعشاتٌ مباغتة،
تصدرُ عمَّن يبتلعُ بشراهة.
لا شيء آخر يُسمَع في العتمة؛
لا شيء آخر، لا شيء إلا
أوركسترا الأفواه العاملة،
آلاتِ الحلاقيم التي لا تُضاهى.
يعبُّون عبَّاً، ومن هناك،
من سكينة النَّهر العميقة،
تنبثقُ مرتعشةً على السَّطح
زهرةُ السَّماء بنورِها المتَّقد.
لكن انظرْ، اللعنة! النَّجمةُ
التي في قطرةٍ تبلغُ الشَّفة،
فوق الشَّفةِ تتمنَّعُ وتتمرَّد،
قبلةٌ تمنحُ برعمَها، ولا تزهر.
مع ذلك - يا لَلعجب!-
إذ يرفع الشَّاربون الأذقانَ
عالياً، ويرفعون الأنوف،
يحسبون السَّماء أوصدتْ عليهم،
ثمَّ (كما لو أنَّهم امتلكوا بحقٍّ
الأكوان المهتزَّةَ والرَّاعشة
في ماءِ كروشِهم المستديرة،
كأسماكٍ حمراء داخلَ باقول)،
ينتصبون على أقدامهم، ظافرين،
ويملؤون العتمة بالهذر،
مجعجعين بالمثاليَّاتِ الجليلة،
تلك التي انتفخت بطونهم بها.
كلٌّ كأنَّه في شطحٍ، كلٌّ
كأنَّه مأخوذٌ بهلوسةٍ عذبة:
- ها أنا أُشْرِبتُ في جوفي نبتون!
- الشِّعْرى اليمانيَّة تهبطُ في حلقي!
- مبلَّلٌ أنا بالزُّهرة! - واعجبي،
إنِّي أتعرَّقُ عُطارداً! - وأنا مرِّيخاً!
- أنا أحسُّ بكوكبةِ رأس الغول
ترشح إلى قلبي من كلِّ ناحية!
- وأنا المشتري! - النَّسر الطَّائر! - النَّسر الواقع!4
- السَّمَّاك الرَّامح!5 لكأنَّ الأمر مباراةٌ. وهاك
سيِّدٌ يهتفُ معلناً: - أقسمُ لكم،
الدُّبُّ الأكبر قد تلبَّسَ جسدي!
- ما أشهاها، ألسيوني!6 - بأيِّ عطرٍ
تهيجُ نجمةُ قاطفة العنب!7
- كمثل شرابٍ حلوٍ، العُفرةُ
النَّجميَّةُ لكوكبة الهُلبة!8
- بالنِّسبة لي، هذا النَّقيع السَّماويُّ
ضئيلُ القوى الإدراريَّة...
- هيَّا قفوا - أتريدون النَّظر؟ -
سأدْفقُ لكم نجمَ القطب...
الأصواتُ تتوالى، كأنَّها مَسِيل،
الألسنُ إذ تلعقُ الشِّفاه المتورِّمة،
تعلنُ أنَّه ما من مستخلَصٍ
يعادِلُ مُستقطَرَ السَّماوات العُلى...
الجدي، عنقود الثريَّا، الدُّبَّان
والسُّدُم؛ الأبراجُ العليَّةُ،
كأنِّي بها تهتزُّ الآنَ - ألا تظنُّون؟-
في هذه القِرَبِ الرثائيَّة.
هكذا، ثملين تماماً، العرَّابون،
(المدنَّسون بالقصيدة)
يمجِّدون بِجاذلِ الكلام
السَّماءَ المصيَّرةَ نُزُلاً...
ثمَّ ها هم (رأيتُهم ذات مرَّة)
يشرعون برقصةٍ رمزيَّة،
رقصةٍ كأنَّ صانعي خطواتِها
مَغِصون مصابون بالاستسقاء؛
صرَّاراتُ ليلٍ غزليَّةٌ نشوانة
تطنُّ في شتول الزَّعتر - لأجلهم!-
حفلٌ موسيقيٌّ مُقطَّعُ النَّغمات،
ونبعٌ لطيفٌ صدَّاح.
رأيتُهم ذات مرَّة... ثمَّ - حللتَ أهلاً
- قال أحدهم لي- بيننا...
قد استحلبنا قبَّةَ السَّماء كلَّها...
لكن ما تزال ثمَّةَ نجومٌ. - أتريد؟
أتريدُ النُّزول معنا؟ ههنا
وأنت بيننا، يمكنك استنهاض الشَّهوة.
هل تسمعُ صلصلةً في بطني؟
إنَّها نجومٌ رنَّانة. لديَّ كُدْسٌ منها.
- منها الأبيض، ومنها الأصفر،
وكذا الأحمر؛ تنبثق إلى ما لا نهاية،
بوفرةٍ تفوق ما في خزائن
كارنجي9 ومورغان10 من دولارات.
- حسبُكَ أن تحني ظهرَك
وتمطِّطَ لسانك إلى الخارج؛
هكذا تمضي إلى النُّجوم، هكذا
بالخرطال السَّماويِّ تتعلَّف...
كان يقول، وتارةً يعرضُ عليَّ هذه
النَّجمة وتارةً تلك: واحدةً تلوَ أخرى...
وأنا أجيب بِلا. - ففي رأسي
لديَّ القمر، يدورُ ويدوِّرني...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أرضُ الأحلام11
أتودِّين أن تكوني هناك؟ هناك - أصغِ-
في كهفٍ من الكهوف البحريَّةِ القصيَّة،
في مغارةٍ ذاع صيتُها ذات مرَّةٍ
حيث تصارعَ التِّنِّينُ وفارسُ الملِك؟
في قصرٍ نِبتونيٍّ12 متروكٍ
بين السَّماء والبحر، مغمورٍ بدُخنةٍ فيروزيَّة؟
ربَّما في نُزلِ حوريَّةٍ وادعٍ
في قلعةٍ على جزيرةِ أطلانطس
شَماليَّة، مغمورةٍ ومنسيَّة؟
ويكون لنا في البازلت معبدٌ،
نقشَه البحرُ نفسُه
على هيئة لحدٍ انتصاريٍّ.
ويكون البحرُ هنا مَطويَّاً ومُستكيناً،
كبحيرةٍ في فُوهةِ بركان.
الشَّمسُ لا ترسلُ إلا فكرتَها.
أمَّا الموجُ - وكأنَّ الذَّهب مستَتِرٌ به،
يبعثُه بقوَّةٍ مداداً مشرِقاً-
فله الحرارةُ التي في بريقِ المراجل.
تلك هي مملكةُ الأصداء والسَّكينةِ البهيَّةُ؛
تحتَ فُسفورِها اللطيفِ كلُّ شيءٍ
يصطبغ بأرجوانِ نورٍ خيالي.
مملكةٌ- ملاذٌ متاهيٌّ مشيَّدٌ
لأجلِ حبٍّ بين أوندينةٍ13 وترايتونٍ14،
واللجَّةُ أذُنٌ تسترقُ السَّمع.
قلعةُ بحرٍ! ما أبهاه خيالاً
أن نكون هنا كما لو في ضيافةِ إله،
شاردَين في فتنةٍ عذبة.
قطرةً قطرة، في تنقيطٍ هادئ،
توشِّي الحُليماتُ العليا15 المغارةَ
بأقواسٍ معلَّقةٍ في الهواء، وهمهمةُ
كلماتِنا، المرفوعةِ قبابَ صدى
بين قوسٍ وقوس، تتصادى كأنَّها
صوتُ إلهٍ خفيٍّ يندهُنا في قلبِه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاذٌ أخضر
غَورٌ رعَّاشٌ أخضر
حيث العين لا تُبصرُ شوكةَ
برقوقٍ، والقدم تتيه بين الجنَباتِ العالية،
(وهناك، في ضُمَّةِ الأكمة، طللُ دَيرٍ
على شرفته عشُّ سنونواتٍ،
وفي الأعماق، عشٌّ آخر، عشُّنا)،
شيءٌ كأنَّه نُزلُ
جميلةِ الغاب16، أو مأوى
راهبٍ عتيقٍ، مشعوذٍ قليلاً.
هل تودِّين المجيء؟ لكي نكرعَ العطرَ،
لا شيء مسوَّفٌ هنا إلا النَّسائم، والشَّمسُ
بمشقَّةٍ هنا وهناك، بين فننٍ وفنن، تفتحُ لها خُرماً
كمثلِ بزوغِ قمرٍ مكتمل
من بين أعمدةِ كاتدرائيَّةٍ عتيقة؛
نورٌ متلصِّصٌ، عزمُه يفقدُ
كلَّ صِبغة، كأنَّه قُدَّ من أوبال.
غابةُ “حلمِ منتصفِ ليلةِ صيفٍ”
نفسُها، لا تبثُّ سحراً يضاهي هذا.
لوحدِنا، في فيء الشَّجر، صُحبةَ زُمَرٍ
ودودةٍ من الطَّير عند أقدامنا، نصير هنا،
أنا وأنتِ، سادةً على الينابيع والغيران؛
صِحاباً للآلْفِ17 الحالمين
المنطوين في شقوق الدَّردار، وللأقزامِ
العارفين بكلِّ طِباعِ الزَّهر،
وكلِّ أسرارِ الحشائشِ وأسمائها،
يظهرون هنا وهناك - من تحتِ الأرومات-
ليتشقلبوا ويقطفوا التُّفَّاح.
سيدنو أوبيرون18 منَّا، ويحوِّطنا الماسُ
إذ يحوِّله النَّسَمُ نفسُه حشوداً
من القَطَارب19، مساءً، على مدى التِّلال
بَكْ20 وتِيتانيا، بأوشحةٍ ناعمة
موشَّاةٍ بالنَّسيم والقمر، سَيُنمِّقان العتمة
و سيملؤها زيغفريد21 بنداءاتِه.
هكذا إذن، على دربه المسدودِ
بالظُّلمات، المشَّاءُ المنفرِد
(الذي يرتعشُ عند كلِّ شجرةٍ ويتوارى
إذ يسمع حولَه صخباً غير مألوف،
ويرى، من بين الأوراق
الطَّويلة، سراجَ حبِّنا يتلألأ)
سيحسبُ أنَّه على عتبةِ جنَّةٍ مجهولةٍ
من جنَّاتِ عدن، منعزلةٍ عليَّة.
وكمثلِ مخلوبٍ أمام سحرٍ فائق
لا يبتعدُ إلا وفي صدره آهة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى قِنِّينةٍ ضاعتْ منذ أمدٍ بعيد
انهضي، أيَّتها الرُّوح! تفجَّري.
انبعثي، حطِّمي
أخيراً غلالاتِ سُباتِك؛
خضخضةٌ، فاقتلاع:
فإذا بالسِّدادةِ تندفع،
بعيداً، بعيداً، بعيداً، بعيداً.
أهلاً بكِ! بكم أسطورةٍ،
بكم شمسٍ
يطفحُ الآنَ كأسُ قدَّاسي.
لكأنَّ قوسَ قزحٍ جذلانَ
يدور في داخله
(يذوب في داخله).
أهلاً بكِ! أيُّ شيءٍ يحوِّلُني
عن مغاورِكِ؟
بعد كلِّ تلك النَّهارات والليالي
التي أمضيتِها غارقةً في الهذَر
داخل البطون
المبجَّلة، بطونِ البراميل؟
أيُّ شِعرٍ ديونيسيٍّ مُستطرَفٍ
وغريبٍ
تعاهدينني به؟ أيُّ ماضٍ
تردِّينه لي؟ ها صديقتي القديمة،
أيُّ عِتقٍ
تبعثينه من جديدٍ كوناً خارقاً؟
تغوينني، فأخالفُ معكِ
النَّغمَ المُصِمَّ
لطواحينِ الوقت؛
تُوافين، فيهبطُ في حلْقي
شيءٌ كالموجة
يدوِّمُ هناكَ لُجَّةَ صفاء.
هذا الأجيجُ في عروقي
يوائمُ جوهرَكِ
أكثر من بردِ الأقباء.
اهبطي! وفجِّري في جوفي
سحاباً صيِّباً
من أغنياتٍ لا مثيل لها.
ها صديقتي القديمة! ما همَّني
إذا ما الرِّيحُ،
ريحُ الخريفِ الفُراديَّةُ الأولى،
سلختْ وعرَّتْ
الكرمةَ النَّاعسةَ على بابي،
ورقةً ورقة؟
ما همَّني إذا ما غيمةٌ
أنفضَتني
بعض علاماتِ المرئيِّ؟
اغويني أكثر، كيما
نشطبَ معاً
الشِّتاءَ بالصَّيف.
الآنَ، تنفصدُ الذَّاكرةُ أضعافاً
وتنفلِع فيَّ ناراً
وكأنَّها إتنا أو سترومبولي22؛
الآنَ، تُجَنُّ
الأفكارُ الأشدُّ استحكاماً
مُنهارةً على بعضِها.
وها فورةُ حُبٍّ هائلة
تؤجِّجُ قلبي
فِعلَ النَّارِ بأيكة.
مَن ذا، عبرَ البحارِ والأرضين،
جديرٌ بحيازتِك، أو
مَن يضاهيكِ يا روحاً عليَّة؟
بلى، ثمَّة أرواحٌ عاتية
رياحُها تقودُ
عُقباناً وتدبِّرُ حواصبَ؛
تغذِّي في بطون البراكين
ناراً غرائبيَّة،
وتُضرِمُ هَوَشَ النُّجوم.
ثمَّة قرائنُ فاتناتٌ
تهبُ العيونَ
بريقَ نورٍ وبرقَ غواية؛
تلقي ثوبَ زفافٍ
على الوردةِ
التي ستتفتَّح ليومٍ واحدٍ من العام.
ثمَّة أرواحٌ فوق الجبال،
في الينابيعِ،
وسطَ فِحامِ المواقد،
تحتَ الزُّهور؛ لكن لا واحدة منها
تمتصُّ الأرضَ برمَّتها
مثلكِ أنتِ، يا روحَ النَّبيذ.
ها أنتِ في الأفخارستيا23 تشعِّين،
ثمَّ تهبطين
كمثلِ فِلِزٍّ مُسيَّل
في الكؤوس، وبدفقةٍ واحدة
تكمِلين تخريمةً
على شفاه الكريستال.
ها أنتِ في الدِّنانِ تفورين،
وفي قنانيِّ الفقير
الضَّافيةِ والمُهمَلة تغتبطين؛
ليس إلَّاكِ نجيٌّ
لكلِّ مستوحِشِ طريقٍ
يمضي وحيداً وبعيداً؛
دائماً، وحيثما كان، أنحني لكِ
تابعاً مكرَّساً
في كلِّ الأزمنةِ والطُّقوس؛
فأنتِ الإبراءُ الأوَّلُ الأوحدُ
من كلِّ المُبرِمات،
وأنتِ النَّفَسُ الأوَّلُ لكلِّ قصيدة.
إنْ كانت إلَّا نُغبةً، أو نُغبتين،
فإذا هو مطوَّحٌ
في هباءِ أفكارِه، فاوستُ المُضنَى!
كذا، لأجلكِ
يضنُّ البخيلُ الهزيلُ المغتمُّ
بلُفافةِ نقودِه؛
كذا، وسطَ القُبَل
ينامُ الماجنُ
حالماً أحلامَ فجورِه المُختبَلة!
إليَّ بكأسٍ! فإنَّ العالَمَ،
ذلك المستدير،
مطويٌّ كلُّه في بطنِ خابية.
اختارها وترجمها وقدَّم لها أمارجي. انظر هنا إلى ترجمات إضافية وكذلك لمقابلة مع المترجم أمارجي اجراها أسامة إسبر.
الحواشي (كما وضعها المترجِم):
1- ساحرة وجنية من أساطير الملك آرثر، ذكرها جفري أوف مونماوث في كتابه "حياة مرلين" على أنها حاكمة أفالون وأنها ماهرةٌ في الطب وتغيير شكلها؛ وفي قصة إريك لكريتيان دي تروا ظهرت لأوَّل مرة كأخت آرثر غير الشقيقة وخلال تطور الشخصية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أصبحت مرتبطة بشخصيتين هما الشافية والعدائية، حيث ظهرت في كتبٍ لاحقةٍ بأنها من خلق المشاكل بين آرثر وزوجته غوينيفير، ولكنها كانت عطوفة حيث حملته إلى أفالون عندما مات.
2- الغولكوندا Golconda لوحة زيتية شهيرة لرينيه ماغريت.
3- الدبران نجمٌ أحمر عملاق ضمن برج الثور.
4- النَّسر الطائر والنَّسر الواقع نجمان، الأوَّل يقع في كوكبة العقاب ويشكِّل رأس العقاب، والآخر يقع في كوكبة القيثارة وهو ألمع نجمٍ فيها وخامس ألمع نجومِ السَّماء.
5- نجم في كوكبة العواء، وهو يكوِّن مع نجم السَّمَّاك الأعزل ونجم المليك ما يسمَّى بمثلَّث الرَّبيع الذي يسطع جليَّاً في سماء الرَّبيع.
6- ألسيوني أو ألكيوني هي في الميثولوجيا الإغريقية ابنة أطلس، والإشارة هنا في النص هي إلى نجمة ألسيوني أو (إيتا الثور) التي تُعَدُّ ألمع نجوم عنقود الثريا، وثالث ألمع نجوم كوكبة الثور.
7- قاطفة العنب هي نجمة في كوكبة العذراء.
8- يتموضع برج الهُلبة بين برجي العذراء والدُّب الأكبر.
9- أندرو كارنجي (1835- 1919)، صناعي أمريكي عصامي ومنشئ مؤسسة كارنجي لشركات الحديد والصلب، حيث ترأس هذه الامبراطورية الصناعية لفترة قبل أن يتخلى عنها لمورغان حيث انسحب نهائياً من مجال الصناعة ليكرِّس نفسه لأعمال ثقافية وخيرية.
10- جون بييربونت مورغان (1837- 1913)، كان رجل أعمال أمريكي، وجامع تحف فنية، وأحد أكثر المهيمنين على المصارف في زمنه. قام بدمج شركة كارنجي للصلب وعدة شركات أخرى للصلب ليكوِّن شركة الولايات المتَّحدة للصلب سنة 1901.
11- في الأصل العنوان باللغة الانكليزية (دريم لاند).
12- نسبةً إلى نبتون إله البحر.
13- واحدة الأوندينات، وهنَّ مخلوقاتٌ أسطوريَّة على هيئة حوريَّاتِ بحرٍ لا يملكن أرواحاً، ولكن بمقدورِ إحداهنَّ أن تمتلك روحاً إذا ما تزوَّجت من رجلٍ من بني البشر.
14- يُصوَّر في الميثولوجيا الإغريقيَّة على هيئة عريس بحرٍ، وهو ابن إله البحر والماء بوسيدون.
15- رواسب كلسيَّة مدلَّاة في الكهوف والمغاور.
16- يقصد الأميرة النائمة، الشخصية المشهورة في الأسطورة الشعبية الأوروبية التي كان "شارل بيرو" أول من ابتدعها في كتابه الشهير "حكاية الإوزة الأم".
17- الآلْف في الميثولوجيا الاسكندنافيَّة والنورديَّة هم كائناتٌ إلاهيَّةٌ صغرى للطَّبيعة والخصوبة، لهم قوى سحريَّة يستعملونها في الخير أو الشَّر، وقد ارتبطوا في القرون الوسطى بقصص العجائب وحكايا الحوريَّات، وصُوِّروا غالباً بشكلِ مخلوقاتٍ صغيرة الحجم تعيش في الغابات والتلال والكهوف، وفي الآبار والينابيع.
18- هو ملك الجن في أدب العصور الوسطى وعصر النهضة؛ ذكره شكسبير في مسرحيته "حلم منتصف ليلة صيف" كقرينٍ لتيتانيا ملكة الجن.
19- جمع قُطْرُب، دُوَيِبَّةٌ تُضِيء فِي اللَّيل كأَنَّها شُعلَة، كثيرةُ الحركة.
20- في "حلم منتصف ليلة صيف" بَكْ Puck (أو روبين جودفيلو) هو خادم أوبيرون.
21- بطل من أبطال الميثولوجيا الإسكندنافيَّة والجرمانيَّة، يُصوَّر غالباً على أنَّه يحمل صُوْراً ينفخ فيه.
22- بركانان، الأوَّل في جزيرة صقلية، والثاني في جزيرة صغيرة تحمل اسمه وتقع شمالي صقلية.
23- سرُّ الأفخارستيا أو سرُّ التَّناول المقدَّس، هو احتفالٌ للتذكير بالعشاء الأخير الذي تناوله يسوع بصحبة تلاميذه.